والله يعلمُ وأنتُم لا تعلمون

في ظاهِر كل ضائقة تمُر بنا شيئاً من الشعور بِالجزَع وسؤالاً كلَماذا قد يكتب لنا الله أن نقع في مثل تِلك الضوائق ولماذا اختارنا نحن من دونِ سائر الخلق؟

في الرابعة عشر من عمري عندما كنت في السنة الثانية من المرحلة الدراسية المتوسطة كان قد اجتمع جميع أفراد عائلة والدتي في منزل جدتي لحضور حفل العشاء الذي رتّبت له خالتي التي تقطن بنفس المنزل (منزل جدتي)، ذلك الحفل كان في الإجازة الصيفية أي بعد انتهاء العام الدراسي وكنت حينها أحضِّر للانتقال إلى السنة الثالثة من المرحلة الدراسية المتوسطة. بينما نحن، أنا وأبناء وبنات خالاتي، نتبادل أطراف الحديث في صالة المنزل إذ بوالدتي تخرج حامِلةً بيدها اليمنى هاتفها النقّال وبيدها اليسرى تحمل منديلاً ورقيّاً لتمسح الدموع من عينيها! كانت مُتجِهة إلى غرفة نوم جدتي لأنها لم تكن تستطيع الحِراك لتشارك خالاتي الجلوس مع الضيوف واستقبالهم. لحقت بها لأنظُر ماذا حدث حتى تخرج بذاك المنظر من مجلس الضيوف وسمعت الآتي :

-         والدتي : أمي، الحمد لله لقد صدر تعييني في وزارة التعليم من ضِمن جُموع القرارات التي تم إصدارها من الديوان الملكي.

-         جدتي : حمداً لله وشُكراً يا ابنتي على أن عوّضكِ مجهود كل تِلك السُّنون التي عملتي بها في القطاع الخاص.

-         والدتي : ولكن يا أمي مقَر تعييني ليس هُنا (مدينة جدة)!

-         جدتي : أين؟

-         والدتي : في منطقة جازان.

-         جدتي : لا بأس يا ابنتي، إن عزمتي على الأمر فنحنُ عَوناً لكِ على الاستقرار المؤقت للعمل هناك.

-         والدتي : يجب عليّ أن أستخير ثم أتخِذ قراراً بالموافقة على الانتقال من عدمها.

-         جدتي : أعانكِ الله.

دعوت الله حينها ألّا توافق أمي على قرار الانتقال ذاك خشية فقدي فرحة إتمام المرحلة المتوسطة بعيداً عن صديقاتي وعدم مشاركتهم فرحة تخرُّج المرحلة، نعم! لقد كان ذلك آنذاك هو ما يشغل فِكري واهتمامي، ولكن حدث ما لم أكُن آمله ووافقت أمي على انتقالنا لمنطقة جازان. درست الصف الثالث المتوسط هناك وتبعته المرحلة الثانوية. مُنذ أن ابتدأت إكمال دراستي في منطقة جازان أي من الصف الثالث في المرحلة المتوسطة وإلى انتهاء المرحلة الثانوية كنت دائماً ما أتساءل لماذا قدّر الله عليّ الانتقال وقد تبقّى لي عاماً واحداً فقط لِأُتِم المرحلة المتوسطة؟ هل يريد الله أن يُشقيني بابتعادي عن بقيّة أهلي من الخالات والخيلان وأبنائهم وبناتهم؟ حاشى لله أن يكون كذلك!

لا أُخفيكم أن هذين السؤالان كانا يتكرّرا في ذهني طيلة سنوات الدراسة بعد الانتقال، ودائماً ما كنت أسأل الله أن يُجيبني عليها بحدّث، إشارة، جُملة! ... أي شيء! ليطمئن قلبي وتسكن روحي. تخرّجت من المرحلة الثانوية وبدأت الاستعدادات للمرحلة الجامعية، سأخبركم هنا أن جميع المجالات الدراسية التي طمحت إلى دراستها لم تكن مُتاحة بعد في المملكة العربية السعودية وإن درستها في دوَل أخرى فإنني لن أتمكن من العمل في المملكة لعدم وجود تلك المجالات بعد للإناث وأنا لا أريد أن أستقِر للحياة والعمل خارِج البلاد. ناقشت أمر اختيار المجال الدراسي مع أقرب الصديقات، وأشارت عليّ بترتيب الخيارات كما يعمل به غالبية الطلاب في ذلك الوقت وهو الآتي : {طب بشري – طب الأسنان – الصيدلة الإكلينيكية – العلوم الطبية التطبيقية والتمريض – ومن ثم الهندسة بكافّة فروعها} وهكذا تكتمل حقول خيارات تحديد مجال الدراسة الجامعي! بعد أسبوعين من ذلك الإجراء استقبلت رسالة نصية بالقبول في كلية الطب البشري والتوجيه بالإسراع في حضور المقابلة الشخصية.

اليوم وبعد مرور 4 سنوات على تلك الحادثة أخُطُّ لكم هذه الكلمات وأنا طالبة طب بشري في سنتها الرابعة لأُخبِركم أن الله قد منحني إجابة تلك الأسئلة التي أرهقتني على مدار 4 سنوات في المرحلة الثانوية والسنة الأخيرة من المرحلة المتوسطة، قد قدّر الله الانتقال في ذلك العام الأخير المتبقي لي من المرحلة المتوسطة ليكون عام تعليم بالنسبة إلي! نعم عام تعليم .. لِأعلم في المدينة، أهلها، طقوسها، مداخلها ومخارجها، ... إلخ ثم أبتدئ المرحلة الثانوية على بيّنةِ ونور لأستطيع التركيز بشكل أكبر وروحٍ أصفى وعزيمة أقوى على التحصيل العلمي المُرتفع وأستحق بذلك فيما بعد مقعد طالب طب. الأمر كان في ظاهره الألم .. ألم الفراق والبُعد، ألم الاشتياق، ألم التغيير، ألم ... إلخ ولكن خلفه كل الرحمة والخير الإلهي الذي لم أكن لأدركه لولا عَيشي به الآن واستشعاري له من خلال مجال دراستي الجامعية وما يحويه من نِعمٍ لا أستطيع إحصاءها. الآن أُقِرُّ يقيناً بأن الله يعلم ونحن لا نعلم. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فتوكّل على اللهِ إنّك على الحقِّ المُبين

وعِبادُ الرحمن الذين يَمشون على الأرضِ هَوناً وإذا خاطبهم الجاهِلون قالوا سلاماً